فصل: تفسير الآيات رقم (192- 200)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 191‏]‏

‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏ قال ذلك اليهود حين سمعوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏‏.‏ وقالوا‏:‏ إن إله محمد يستقرض منا فنحن إذاً أغنياء وهو فقير‏.‏ ومعنى سماع الله له أنه لم يخف عليه وأنه أعد له كفاء من العقاب ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ‏}‏ سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف، أو سنحفظه إذ الكتاب من الخلق ليحفظ ما فيه فسمي به مجازاً‏.‏ و«ما» مصدرية أو بمعنى «الذي» ‏{‏وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏ معطوف على «ما»‏.‏ جعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذاناً له بأنهما في العظم أخوان، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول ‏{‏وَنَقُولُ‏}‏ لهم يوم القيامة ‏{‏ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق‏}‏ أي عذاب النار كما أذقتم المسلمين الغصص‏.‏ قال الضحاك‏:‏ يقول لهم ذلك خزنة جهنم، وإنما أضيف إلى الله تعالى لأنه بأمره كما في قوله «سنكتب» «سيكتب» و«قتلهم» و«يقول»‏:‏ حمزة‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من عقابهم ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ أي ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر والمعاصي، والإضافة إلى اليد لأن أكثر الأعمال يكون بالأيدي فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب، ولأنه يقال للآمر بالشيء فاعله فذكر الأيدي للتحقيق يعني أنه فعل نفسه لا غيره بأمره ‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ وبأن الله لا يظلم عباده فلا يعاقبهم بغير جرم ‏{‏الذين قَالُواْ‏}‏ في موضع جر على البدل من «الذين قالوا» أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا‏}‏ أمرنا في التوراة وأوصانا ‏{‏أَلاَّ نُؤْمِنَ‏}‏ بأن لا نؤمن ‏{‏لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار‏}‏ أي يقرب قرباناً فتنزل نار من السماء فتأكله فإن جئتنا به صدقناك، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله لأن أكل النار القربان سبب الإيمان للرسول الآتي به لكونه معجزة فهو إذاً وسائر المعجزات سواء ‏{‏قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات‏}‏ بالمعجزات سوى القربان ‏{‏وبالذى قُلْتُمْ‏}‏ أي بالقربان يعني قد جاء أسلافكم الذين أنتم على ملتهم ورضوان بفعلهم ‏{‏فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ‏}‏ أي إن كان امتناعكم عن الإيمان لأجل هذا فلم لم تؤمنوا بالذين أتوابه ولم قتلتموهم ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في قولكم إنما نؤخر الإيمان لهذا ‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ فإن كذبك اليهود فلا يهولنك فقد فعلت الأمم بأنبيائها كذلك ‏{‏جَاءُو بالبينات‏}‏ بالمعجزات الظاهرات ‏{‏والزبر‏}‏ الكتب جمع زبور من الزبر وهو الكتابة‏.‏ «وبالزبر»‏:‏ شامي ‏{‏والكتاب‏}‏ جنسه ‏{‏المنير‏}‏ المضيء‏.‏ قيل‏:‏ هما واحد في الأصل وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين، فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو الكتاب الهادي‏.‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ مبتدأ والخبر ‏{‏ذَائِقَةُ الموت‏}‏ وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من العموم، والمعنى لا يحزنك تكذيبهم إياك فمرجع الخلق إليّ فأجازيهم على التكذيب وأجازيك على الصبر وذلك قوله ‏{‏وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ أي تعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة فإن الدنيا ليست بدار الجزاء ‏{‏فَمَن زُحْزِحَ‏}‏ بعد، والزحزحة‏:‏ الإبعاد ‏{‏عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ‏}‏ ظفر بالخير‏.‏ وقيل‏:‏ فقد حصل له الفوز المطلق‏.‏ وقيل‏:‏ الفوز نيل المحبوب والبعد عن المكروه ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور‏}‏ شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، والشيطان هو المدلس الغرور‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ إنما هذا لمن آثرها على الآخرة، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ‏.‏ وعن الحسن‏:‏ كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل لها ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ‏}‏ والله لتبلون أي لتختبرن ‏{‏فِى أموالكم‏}‏ بالإنفاق في سبيل الله وبما يقع فيها من الآفات ‏{‏وأَنفُسِكُمْ‏}‏ بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليه من أنواع المخاوف والمصائب، وهذه الآية دليل على أن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطن كما قال بعض أهل الكلام والفلاسفة، كذا في شرح التأويلات ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني اليهود والنصارى ‏{‏وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً‏}‏ كالطعن في الدين وصد من أراد الإيمان وتخطئة من آمن ونحو ذلك ‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ‏}‏ على أذاهم ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ مخالفة أمر الله ‏{‏فَإِنَّ ذلك‏}‏ فإن الصبر والتقوى ‏{‏مِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ من معزومات الأمور أي مما يجب العزم عليه من الأمور، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه‏.‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب ‏{‏لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ عن الناس بالتاء على حكاية مخاطبتهم كقوله ‏{‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب لَتُفْسِدُنَّ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ وبالياء‏:‏ مكي وأبو عمرو وأبو بكر، لأنهم غيب والضمير للكتاب، أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏ فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم أي لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد، وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم، أو لجر منفعة أو دفع أذية، أو لبخل بالعلم، وفي الحديث

‏"‏ من كتم علماً عن أهله ألجمه الله بلجام من نار ‏"‏ ‏{‏واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ عرضاً يسيراً ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏‏.‏

والخطاب في ‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ‏}‏ لرسول الله وأحد المفعولين ‏{‏الذين يَفْرَحُونَ‏}‏ والثاني بمفازة، وقوله «فلا تحسبنهم» تأكيد تقديره‏:‏ لا تحسبنهم فائزين ‏{‏بِمَا أَتَوْاْ‏}‏ بما فعلوا وهي قراءة أبيّ و«جاء» و«أتى» يستعملان بمعنى فعل ‏{‏إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 61‏]‏‏.‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقرأ النخعي «بما آتوا» أي أعطوا ‏{‏وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب‏}‏ بمنجاة منه ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ مؤلم‏.‏ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا من تدليسهم، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه، ناجين من العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة‏.‏ وفيه وعيد لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه‏.‏ ‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ فهو يملك أمرهما، وفيه تكذيب لمن قال «إن الله فقير» ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فهو يقدر على عقابهم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لاَيَاتٍ‏}‏ لأدلة واضحة على صانع قديم عليم حكيم قادر ‏{‏لأُوْلِى الألباب‏}‏ لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللب عن القشر، فيرى أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر، لأن جوهراً ما لا ينفك عن عرض حادث وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، ثم حدوثها يدل على محدثها وذا قديم وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى، وحسن صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل على قدرته، قال عليه السلام ‏"‏ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ‏"‏ وحكي أنه كان في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه‏:‏ لعل فرطة فرطت منك في مدتك‏.‏ قال‏:‏ ما أذكر‏.‏ قالت‏:‏ لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر‏.‏ قال‏:‏ لعل‏.‏ قالت‏:‏ فما أوتيت إلا من ذاك ‏{‏الذين‏}‏ في موضع جر نعت ل «أولي» أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم ‏{‏يَذْكُرُونَ الله‏}‏ يصلون ‏{‏قِيَاماً‏}‏ قائمين عند القدرة ‏{‏وَقُعُوداً‏}‏ قاعدين «وعلى جُنُوبِهِمْ» أي مضطجعين عند العجز وقياماً وقعوداً حالان من ضمير الفاعل في «يذكرون»‏.‏

و«وعلى جنوبهم» حال أيضاً، أو المراد الذكر على كل حال لأن الإنسان لا يخلو عن هذه الأحوال، وفي الحديث ‏"‏ من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ‏"‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض‏}‏ وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها مما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه من عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه، وعن النبي عليه السلام ‏"‏ بينا رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال‏:‏ أشهد أن لك رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي، فنظر الله إليه فغفر له ‏"‏ وقال عليه السلام ‏"‏ لا عبادة كالتفكر ‏"‏ وقيل؛ الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا‏}‏ أي يقولون ذلك وهو في محل الحال أي يتفكرون قائلين، والمعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لحكمة عظيمة وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك، و«هذا» إشارة إلى الخلق على أن المراد به المخلوق، أو إلى السماوات والأرض لأنها في معنى المخلوق كأنه قيل‏:‏ ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً ‏{‏سبحانك‏}‏ تنزيهاً لك عن الوصف بخلق الباطل وهو اعتراض ‏{‏فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ الفاء دخلت لمعنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 200‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ أهنته أو أهلكته أو فضحته، واحتج أهل الوعيد بالآية مع قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏‏.‏ في أن من يدخل النار لا يكون مؤمناً ويخلد‏.‏ قلنا‏:‏ قال جابر‏:‏ إخزاء المؤمن تأديبه وإن فوق ذلك لخزياً ‏{‏وَمَا للظالمين‏}‏ اللام إشارة إلى من يدخل النار والمراد الكفار ‏{‏مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ من أعوان وشفعاء يشفعون لهم كما للمؤمنين ‏{‏رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً‏}‏ تقول‏:‏ سمعت رجلاً يقول كذا، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف لم يكن منه بد وأن يقال سمعت كلام فلان‏.‏ والمنادي هو الرسول عليه السلام أو القرآن ‏{‏يُنَادِى للإيمان‏}‏ لأجل الإيمان بالله، وفيه تفخيم لشأن المنادي إذ لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان ‏{‏أَنْ ءَامِنُواْ‏}‏ بأن آمنوا أو أي آمنوا ‏{‏بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا‏}‏ قال الشيخ أبو منصور رحمه الله‏:‏ فيه دليل بطلان الاستثناء في الإيمان ‏{‏رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ كبائرنا ‏{‏وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا‏}‏ صغائرنا ‏{‏وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار‏}‏ مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، والأبرار والمتمسكون بالسنة جمع «بر» أو «بار» ك «رب» وأرباب وصاحب وأصحاب ‏{‏رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ أي على تصديق رسلك، أو ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو على ألسنة رسلك، و«على» متعلق ب «وعدتنا» والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء‏.‏ وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبين لمن هو، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك يؤيده قوله ‏{‏وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة‏}‏ أو هو إظهار للخضوع والضراعة ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد‏}‏ هو مصدر بمعنى الوعد‏.‏

‏{‏فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ‏}‏ أي أجاب يقال استجاب له واستجابه ‏{‏أَنّى‏}‏ بأني ‏{‏لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ‏}‏ «منكم» صفة ل عامل ‏{‏مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى‏}‏ بيان ل «عامل» ‏{‏بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ‏}‏ الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر كلكم بنو آدم، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين، وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين‏.‏ عن جعفر الصادق رضي الله عنه‏:‏ من حزبه أمر فقال خمس مرات‏:‏ «ربنا»، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ الآيات‏.‏ ‏{‏فالذين هاجروا‏}‏ مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له كأنه قال‏:‏ فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم إلى حيث يأمنون عليه، فالهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام ‏{‏وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم‏}‏ التي ولدوا فيها ونشأوا ‏{‏وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى‏}‏ بالشتم والضرب ونهب المال يريد سبيل الدين ‏{‏وقاتلوا وَقُتِلُواْ‏}‏ وغزوا المشركين واستشهدوا، «وقتّلوا»‏:‏ مكي وشامي، «وقتلوا وقاتلوا» على التقديم والتأخير‏:‏ حمزة وعلي‏.‏

وفيه دليل على أن الواو لا توجب الترتيب والخبر‏.‏ ‏{‏لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏ وهو جواب قسم محذوف ‏{‏ثَوَاباً‏}‏ في موضع المصدر المؤكد يعني إثابة أو تثويباً ‏{‏مِنْ عِندِ الله‏}‏ لأن قوله «لأكفرن عنهم ولأدخلنهم» في معنى لأثيبنهم ‏{‏والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب‏}‏ أي يختص به ولا يقدر عليه غيره‏.‏

وروي أن طائفة من المؤمنين قالوا‏:‏ إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع، فنزل ‏{‏لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد‏}‏ والخطاب لكل أحد أو للنبي عليه السلام والمراد به غيره، أو لأن مدره القوم ومقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً فكأنه قيل‏:‏ لا يغرنكم‏.‏ أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 86‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ وهذا في النهي نظير قوله في الأمر ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ‏}‏ ‏(‏النساء 136‏)‏‏.‏

‏{‏متاع قَلِيلٌ‏}‏ خبر مبتدإ محذوف أي تقلبهم في البلاد متاع قليل، وأراد قتله في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل ‏{‏ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد‏}‏ وساء ما مهدوا لأنفسهم ‏{‏لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ‏}‏ عن الشرك ‏{‏لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نُزُلاٍ‏}‏ النزل والنزل ما يقام للنازل وهو حال من «جنات» لتخصصها بالصفة، والعامل اللام في «لهم» أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقاً أو عطاء ‏{‏مّن عند اللّه‏}‏ صفة له ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ من الكثير الدائم ‏{‏خَيْرٌ لّلابْرَارِ‏}‏ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل‏.‏ «لكن» بالتشديد‏:‏ يزيد وهو للاستدراك أي لإبقاء لتمتعهم لكن ذلك للذين اتقوا‏.‏ ونزلت في ابن سلام وغيره من مسلمي أهل الكتاب، أو في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا‏.‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله‏}‏ دخلت لام الابتداء على اسم «إن» لفصل الظرف بينهما ‏{‏وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ‏}‏ من القرآن ‏{‏وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ من الكتابين ‏{‏خاشعين للَّهِ‏}‏ حال من فاعل «يؤمن» لأن من يؤمن في معنى الجمع ‏{‏لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم وهو حال بعد حال أي غير مشترين ‏{‏أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ أي ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعده في قوله

‏{‏أولئك يؤتون أجرهم مرتين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 54‏]‏ ‏{‏إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب‏}‏ لنفوذ علمه في كل شيء‏.‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا‏}‏ على الدين وتكاليفه‏.‏ قال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ الصبر حبس النفس على المكروه بنفي الجزع ‏{‏وَصَابِرُواْ‏}‏ أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً ‏{‏وَرَابِطُواْ‏}‏ وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو ‏{‏واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ الفلاح‏:‏ البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه، و«لعل» لتغييب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ اصبروا في محبتي، وصابروا في نعمتي، ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتي‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما ‏"‏ والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة النساء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ‏(‏1‏)‏ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ‏(‏3‏)‏ وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

نزلت بالمدينة آياتها مائة وست وسبعون آية

‏{‏يَا أَيُّهَا الناس‏}‏ يا بني آدم ‏{‏اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم ‏{‏وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ معطوف على محذوف كأنه قيل‏:‏ من نفس واحدة أنشأها وخلق منها زوجها، والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعه ‏{‏وَبَثَّ مِنْهُمَا‏}‏ ونشر من آدم وحواء ‏{‏رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء‏}‏ كثيرة أي وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها، أو على خلقكم والخطاب في «يا أيها الناس» للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر‏.‏ فإن قلت‏:‏ الذي تقتضيه جزالة النظم أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يعدو إليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره داعياً إليها‏؟‏ قلت‏:‏ لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب الكفار والفجار فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها‏.‏ قال عليه السلام عند نزول الآية ‏"‏ خلقت المرأة من الرجل فهمّها في الرجل وخلق الرجل من التراب فهمّه في التراب ‏"‏ ‏{‏واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ‏}‏ والأصل «تتساءلون» فأدغمت التاء في السين بعد إبدالها سيناً لقرب التاء من السين للهمس‏.‏ «تساءلون به» بالتخفيف‏:‏ كوفي على حذف التاء الثانية استثقالاً لاجتماع التاءين أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم فيقول بالله وبالرحم‏:‏ افعل كذا على سبيل الاستعطاف ‏{‏والأرحام‏}‏ بالنصب على أنه معطوف على اسم الله تعالى أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، أو على موضع الجار والمجرور كقولك «مررت بزيد وعمراً»، وبالجر‏:‏ حمزة على عطف الظاهر على الضمير وهو ضعيف، لأن الضمير المتصل كاسمه متصل والجار والمجرور كشيء واحد فأشبه العطف على بعض الكلمة ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً‏}‏ حافظاً أو عالماً‏.‏

‏{‏وَءاتُواْ اليتامى أموالهم‏}‏ يعني الذين ماتت آباؤهم فانفردوا عنهم‏.‏ واليتم‏:‏ الانفراد ومنه الدرة اليتيمة، وقيل‏:‏ اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات، وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم‏.‏

وقوله عليه السلام ‏"‏ لا يتم بعد الحلم ‏"‏ تعليم شريعة لا لغة يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار‏.‏ والمعنى وآتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ، وسماهم يتامى لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر، وفيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ أن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار ‏{‏وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب‏}‏ ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها‏.‏ والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم‏}‏ «إلى» متعلقة بمحذوف وهي في موضع الحال أي مضافة إلى أموالكم‏.‏ والمعنى ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم وتسوية بينه وبين الحلال ‏{‏إنّهُ‏}‏ إن أكلها ‏{‏كَانَ حُوباً كَبِيراً‏}‏ ذنباً عظيماً ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ‏}‏ أي لا تعدلوا‏.‏ أقسط أي عدل ‏{‏فِى اليتامى‏}‏ يقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة ويتيم، وأما أيتام فجمع يتيم لا غير ‏{‏فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ‏}‏ ما حل لكم ‏{‏مّنَ النساء‏}‏ لأن منهن ماحرم الله كاللاتي في آية التحريم‏.‏ وقيل‏:‏ «ما» ذهاباً إلى الصفة لأن ما يجيء في صفات من يعقل فكأنه قيل‏:‏ الطيبات من النساء، ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ قيل‏:‏ كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل‏:‏ إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، أو كانوا يتحرجون من الولاية في أموال اليتامى ولا يتحرجون من الاستكثار من النساء مع أن الجور يقع بينهن إذا كثرن فكأنه قيل‏:‏ إذا تحرجتم من هذا فتحرجوا من ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا من البالغات‏.‏ يقال طابت الثمرة أي أدركت ‏{‏مثنى وثلاث وَرُبَاعَ‏}‏ نكرات‏.‏ وإنما منعت الصرف للعدل والوصف، وعليه دل كلام سيبويه ومحلهن النصب على الحال «من النساء» أو «مما طاب» تقديره‏:‏ فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً أربعاً‏.‏ فإن قلت‏:‏ الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع‏؟‏ قلت‏:‏ الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة‏:‏ اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى‏.‏

وجيء بالواو لتدل على تجويز الجمع بين الفرق، ولو جيء ب «أو» مكانها لذهب معنى التجويز ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ‏}‏ بين هذه الأعداد ‏{‏فواحدة‏}‏ فالزموا أو فاختاروا واحدة ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ سوّى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري ‏{‏أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏ أقرب من أن لا تميلوا ولا تجوروا، يقال عال الميزان عولاً إذا مال، وعال الحاكم في حكمه إذا جار‏.‏ ويحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر «أن لا تعولوا» أن لا تكثر عيالكم واعترضوا عليه بأنه يقال‏:‏ أعال يعيل إذا كثر عياله‏.‏ وأجيب بأن يجعل من قولك «عال الرجل عياله يعولهم» كقولك «مانهم يمونهم» إذا أنفق عليهم لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال‏.‏ وكلام مثله من أعلام العلم حقيق بالحمل على السداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا كأنه سلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات ‏{‏وَءاتُواْ النساء صدقاتهن‏}‏ مهورهن ‏{‏نِحْلَةً‏}‏ من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً، وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قال‏:‏ وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس‏.‏ وقيل‏:‏ نحلة من الله تعالى عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن‏.‏ وقيل‏:‏ النحلة الملة وفلان ينتحل كذا أي يدين به يعني وآتوهن مهورهن ديانة على أنها مفعول لها‏.‏ والخطاب للأزواج، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ‏{‏فَإِن طِبْنَ لَكُمْ‏}‏ للأزواج ‏{‏عَن شَئ مّنْهُ‏}‏ أي من الصداق إذ هو في معنى الصدقات ‏{‏نَفْساً‏}‏ تمييز وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصدقات وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقهم وسوء معاشرتكم‏.‏ وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل«فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً» ولم يقل «فإن وهبن لكم» إعلاماً بأن المراعي هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة ‏{‏فَكُلُوهُ‏}‏ الهاء يعود على «شيء» ‏{‏هَنِيئَاً‏}‏ لا إثم فيه ‏{‏مَّرِيئاً‏}‏ لا داء فيه، فسرهما النبي عليه السلام أو هنيئاً في الدنيا بلا مطالبة، مريئاً في العقبى بلا تبعة، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه، وهما وصف مصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء، وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة‏.‏ هنياً مرياً بغير همز‏:‏ يزيد، وكذا حمزة في الوقف، وهمزهما الباقون‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم ليشتر بها عسلاً فليشربه بماء السماء فيجمع الله له هنيئاً ومريئاً وشفاء ومباركاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏5‏)‏ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏6‏)‏ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏8‏)‏ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ‏(‏10‏)‏ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء‏}‏ المبذرين أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا قدرة لهم على إصلاحها وتثميرها والتصرف فيها، والخطاب للأولياء‏.‏ وأضاف إلى الأولياء أموال السفهاء بقوله ‏{‏أموالكم‏}‏ لأنهم يلونها ويمسكونها ‏{‏التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما‏}‏ أي قواماً لأبدانكم ومعاشاً لأهلكم وأولادكم‏.‏ قيما بمعنى قياماً‏:‏ نافع وشامي كما جاء «عوذا» بمعنى «عياذا»‏.‏ وأصل قيام قوام فجعلت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وكان السلف يقولون‏:‏ المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس، وعن سفيان وكان له بضاعة يقلبها لولاها لتمندل بي بنو العباس ‏{‏وارزقوهم فِيهَا‏}‏ واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق ‏{‏واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ عدة جميلة إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم، وكل ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته لقبحه فهو منكر‏.‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ، فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى تتبين حاله فيما يجيء منه، وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة ‏{‏حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ‏}‏ أي الحلم لأنه يصلح للنكاح عنده ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد ‏{‏فَإنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ‏}‏ تبينتم ‏{‏رَشَدًا‏}‏ هداية في التصرفات وصلاحاً في المعاملات ‏{‏فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم‏}‏ من غير تأخير عن حد البلوغ، ونظم هذا الكلام أن ما بعد «حتى» إلى ‏{‏فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم‏}‏ جعل غاية للابتلاء وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله‏:‏

حتى ماء دجلة أشكل

والواقعة بعدها جملة شرطية لأن «إذا» متضمنة معنى الشرط وفعل الشرط «بلغوا النكاح»وقوله‏:‏ «فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم» جملة من شرط وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذي هو «إذا بلغوا النكاح»فكأنه قيل‏:‏ وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم‏.‏ وتنكير الرشد يفيد أن المراد رشد مخصوص وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو يفيد التقليل أي طرفاً من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله في دفع المال عند بلوغ خمس وعشرين سنة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ‏}‏ ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ف «إسرافاً» و«بداراً»‏}‏ مصدران في موضع الحال و«أن يكبروا» في موضع المصدر منصوب الموضع ب «بداراً»، ويجوز أن يكونا مفعولاً لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف‏}‏ قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنياً وبين أن يكون فقيراً، فالغني يستعف من أكلها أي يحترز من أكل مال اليتيم، واستعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة والفقير يأكل قوتاً مقدراً محتاطاً في أكله‏.‏

عن إبراهيم‏.‏ ما سد الجوعة ووارى العورة ‏{‏فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ بأنهم تسلموها وقبضوها دفعاً للتجاحد وتفادياً عن توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر ‏{‏وكفى بالله حَسِيباً‏}‏ محاسباً فعليكم بالتصادق وإياكم والتكاذب، أو هو راجع إلى قوله «فليأكل بالمعروف» أي ولا يسرف فإن الله يحاسبه عليه ويجازيه به‏.‏ وفاعل«كفى» لفظة «الله» والباء زائدة و«كفى» يتعدى إلى مفعولين دليله ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏

‏{‏لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون‏}‏ هم المتوارثون من ذوي القرابات دون غيرهم ‏{‏مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ‏}‏ بدل «مما ترك» بتكرير العامل والضمير في «منه» يعود إلى ما ترك «نصيباً» نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيباً ‏{‏مّفروضاً‏}‏ مقطوعاً لا بد لهم من أن يحوزوه‏.‏ روي أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون‏:‏ لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة‏.‏ فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت فقال‏:‏ إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت الآية، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت يوصيكم الله فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم وإذا حضر القسمة أي قسمة التركة أولوا القربى ممن لا يرث واليتامى والمساكين من الأجانب فارزقوهم فأعطوهم مّنه مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ‏.‏ وقيل‏:‏ كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث ‏{‏***‏}‏ مقطوعاً لا بد لهم من أن يجوزوه‏.‏ روي أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون‏:‏ لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة‏.‏ فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت فقال‏:‏ ‏"‏ إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله ‏"‏ فنزلت الآية، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت «يوصيكم الله» فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم ‏{‏وإذا حضر القسمة‏}‏ أي قسمة التركة ‏{‏أولوا القربى‏}‏ ممن لا يرث ‏{‏واليتامى والمساكين‏}‏ من الأجانب ‏{‏فارزقوهم‏}‏ فأعطوهم ‏{‏مّنه‏}‏ مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ‏.‏

وقيل‏:‏ كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث ‏{‏وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ عذراً جميلاً وعدة حسنة، وقيل‏:‏ القول المعروف أن يقولوا لهم‏:‏ خذوا بارك الله عليكم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم‏.‏

‏{‏وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً‏}‏ المراد بهم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى فيشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافاً، وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوره حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة‏.‏ «ولو» مع ما في حيزه صلة ل «الذين» أي وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم‏.‏ وجواب «لو»‏:‏ «خافوا»، والقول السديد من الأوصياء أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم ب يا بني ويا ولدي‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً‏}‏ ظالمين فهو مصدر في موضع الحال ‏{‏إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ‏}‏ ملء بطونهم ‏{‏نَارًا‏}‏ أي يأكلون ما يجر إلى النار فكأنه نار‏.‏ روي أنه يبعث آكل مال اليتامى يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه فيعرف الناس أنه كان يأكل من مال اليتيم في الدنيا ‏{‏وَسَيَصْلَوْنَ‏}‏ «وسَيُصلون» شامي وأبو بكر ‏{‏سَعِيراً‏}‏ ناراً من النيران مبهمة الوصف‏.‏

‏{‏يُوصِيكُمُ الله‏}‏ يعهد إليكم ويأمركم ‏{‏فِى أولادكم‏}‏ في شأن ميراثهم وهذا إجمال تفصيله ‏{‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين‏}‏ أي للذكر منهم أي من أولادكم فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم كقولهم «السمن منوان بدرهم» وبدأ بحظ الذكر ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية فقيل‏:‏ كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به‏.‏ والمراد حال الاجتماع أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان كما أن لهما سهمين، وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله، والبنتان تأخذان الثلثين، والدليل عليه أنه أتبعه حكم الانفراد بقوله ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاءً‏}‏ أي فإن كانت الأولاد نساء خلصاً يعني بناتاً ليس معهن ابن ‏{‏فَوْقَ اثنتين‏}‏ خبر ثانٍ لكان أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين ‏{‏فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ‏}‏ أي الميت لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت ‏{‏وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف‏}‏ أي وإن كانت المولودة منفردةٌ‏.‏

«واحدة»‏:‏ مدني على «كان» التامة والنصب أوفق لقوله «فإن كن نساء»‏.‏ فإن قلت‏:‏ قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما‏؟‏ قلت‏:‏ حكمهما مختلف فيه؛ فابن عباس رضي الله عنهما نزلهما منزلة الواحدة لا منزلة الجماعة، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أعطوهما حكم الجماعة بمقتضى قوله ‏{‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين‏}‏ وذلك لأن من مات وخلف بنتاً وابناً فالثلث للبنت والثلثان للابن، فإذا كان الثلث لبنت واحدة كان الثلثان للبنتين، ولأنه قال في آخر السورة ‏{‏إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ‏}‏‏.‏ والبنتان أمس رحماً بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين، ولم ينقصوا حظهما عن حظ من هو أبعد منهما، ولأن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضاً مع أخيها لو انفردت معه فوجب لهما الثلثان‏.‏ وفي الآية دلالة على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى، لأنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وقد جعل للأنثى النصف إذا كانت منفردة فعلم أن للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكل‏.‏

والضمير في ‏{‏وَلأَبَوَيْهِ‏}‏ للميت والمراد الأب والأم إلا أنه غلب الذكر ‏{‏لِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس‏}‏ بدل من لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل «ولأبويه السدس» لكان ظاهره اشتراكهما فيه، ولو قيل «ولأبويه السدسان» لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها، ولو قيل «ولكل واحد من أبويه السدس» لذهبت فائدة التأكيد وهو التفصيل بعد الإجمال‏.‏ والسدس مبتدأ خبره لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان، وقرأ الحسن السدس والربع والثمن والثلث بالتخفيف ‏{‏مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ هو يقع على الذكر والأنثى ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمّهِ الثلث‏}‏ أي مما ترك والمعنى وورثه أبواه فحسب، لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما يبقى بعد إخراج نصيب الزوج لا ثلث ما ترك، لأن الأب أقوى من الأم في الإرث بدليل أن له ضعف حظها إذا خلصا‏.‏ فلو ضرب لها الثلث كاملاً لأدى إلى حظ نصيبه عن نصيبها؛ فإن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب، حازت الأم سهمين والأب سهماً واحداً فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين‏.‏ «فلأمه» بكسر الهمزة‏:‏ حمزة وعلي لمجاورة كسر اللام ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُ‏}‏ أي للميت ‏{‏إِخْوَةٌ فَلأِمِهِ السدس‏}‏ إذا كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فصاعداً، فلأمه السدس‏.‏

والأخ الواحد لا يحجب، والأعيان والعلات والأخياف في حجب الأم سواء ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ‏}‏ متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها لا بما يليه وحده كأنه قيل‏:‏ قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية ‏{‏يُوصِى بِهَا‏}‏ هو وما بعده بفتح الصاد‏:‏ مكي وشامي وحماد ويحيى وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية لمجاورة «يورث»، وكسر الأولى لمجاورة «يوصيكم الله»‏.‏ الباقون‏:‏ بكسر الصادين أي يوصى بها الميت‏.‏ ‏{‏أَوْ دَيْنٍ‏}‏ والإشكال أن الدّين مقدم على الوصية في الشرع، وقدمت الوصية على الدين في التلاوة‏.‏ والجواب إن «أو» لا تدل على الترتيب، ألا ترى أنك إذا قلت «جاءني زيد أو عمرو» كان المعنى جاءني أحد الرجلين فكان التقدير في قوله «من بعد وصية يوصى بها» أو دين من بعد أحد هذين الشيئين‏:‏ الوصية أو الدين‏.‏ ولو قيل بهذا اللفظ لم يدر فيه الترتيب، بل يجوز تقديم المؤخر وتأخير المقدم كذا هنا‏.‏ وإنما قدمنا الدين على الوصية بقوله عليه السلام ‏"‏ ألا إن الدّين قبل الوصية ‏"‏ ولأنها تشبه الميراث من حيث إنها صلة بلا عوض فكان إخراجها مما يشق على الورثة، وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فقدمت على الدين ليسارعوا إلى إخراجها مع الدين ‏{‏ءابَاؤُكُمْ‏}‏ مبتدأ ‏{‏وَأَبناؤُكُمْ‏}‏ عطف عليه والخبر ‏{‏لاَ تَدْرُونَ‏}‏ وقوله ‏{‏أَيُّهُم‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏أَقْرَبُ لَكُمْ‏}‏ والجملة في موضع نصب ب «تدرون» ‏{‏نَفْعاً‏}‏ تمييز والمعنى‏:‏ فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع وأنتم لا تدرون تفاوتها فتولى الله ذلك فضلاً منه ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير‏.‏ وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لا موضع لها من الإعراب ‏{‏فَرِيضَةً‏}‏ نصبت نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضاً ‏{‏مّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بالأشياء قبل خلقها ‏{‏حَكِيماً‏}‏ في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 17‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏14‏)‏ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ‏(‏15‏)‏ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم‏}‏ أي زوجاتكم ‏{‏إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ‏}‏ أي ابن أو بنت ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ‏}‏ منكم أو من غيركم ‏{‏فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ْ‏}‏ والواحد والجماعة سواء في الربع والثمن، جعل ميراث الزوج ضعف ميراث الزوجة لدلالة قوله‏:‏ «للذكر مثل حظ الأُنثيين»‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانَ رَجُلٌ‏}‏ يعني للميت وهو اسم «كان» ‏{‏يُورَثُ‏}‏ من ورث أي يورث منه وهو صفة ل «رجل» ‏{‏كلالة‏}‏ خبر «كان» أي وإن كان رجل موروث منه كلالة أو يورث خبر «كان» وكلالة حال من الضمير في يورث‏.‏ والكلالة تطلق على من لم يخلف ولداً ولا ولداً وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء ‏{‏أَو امرأة‏}‏ عطف على رجل ‏{‏وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ‏}‏ أي لأم فإن قلت‏:‏ قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره‏؟‏ قلت‏:‏ أما إفراده فلأن «أو» لأحد الشيئين، وأما تذكيره فلأنه يرجع إلى رجل لأنه مذكر مبدوء به، أو يرجع إلى أحدهما وهو مذكر ‏{‏فَلِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك‏}‏ من واحد ‏{‏فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثلث‏}‏ لأنهم يستحقون بقرابة الأم وهي لا ترث أكثر من الثلث ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ إنما كررت الوصية لاختلاف الموصين، فالأول الوالدان والأولاد، والثاني الزوجة، والثالث الزوج، والرابع الكلالة‏.‏ ‏{‏غَيْرَ مُضَارٍّ‏}‏ حال أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو لوارث ‏{‏وَصِيَّةً مّنَ الله‏}‏ مصدر مؤكد أي يوصيكم بذلك وصية ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بمن جار أو عدل في وصيته ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد‏.‏ فإن قلت‏:‏ فأين ذو الحال فيمن قرأ «يوصي بها»‏؟‏ قلت‏:‏ يضمر «يوصي» فينتصب عن فاعله لأنه لما قيل «يوصي بها» علم أن ثمّ موصياً كما كان ‏{‏رِجَالٌ‏}‏ فاعل ما يدل عليه ‏{‏يُسَبّحُ‏}‏‏)‏ النور‏:‏ 36‏)‏ لأنه لما قيل ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ‏}‏ علم أن ثم مسبحاً فأضمر «يسبح»‏.‏

واعلم أن الورثة أصناف أصحاب الفرائض وهم الذين لهم سهام مقدرة كالبنت ولها النصف، وللأكثر الثلثان، وبنت الابن وإن سفلت وهي عند عدم الولد كالبنت ولها مع البنت الصلبية السدس، وتسقط بالابن وبنتي الصلب إلا أن يكون معها أو أسفل منها غلام فيعصبها، والأخوات لأب وأم وهن عند عدم الولد وولد الابن كالبنات والأخوات لأب، وهن كالأخوات لأب وأم عند عدمهن، ويصير الفريقان عصبة مع البنت أو بنت الابن، ويسقطن بالابن وابنه وإن سفل، والأب وبالجد عند أبي حنيفة رحمه الله وولد الأم فللواحد السدس وللأكثر الثلث، وذكرهم كأنثاهم ويسقطون بالولد وولد الابن وإن سفل والأب والجد‏.‏

والأب وله السدس مع الابن أو ابن الابن وإن سفل، ومع البنت أو بنت الابن وإن سفلت السدس والباقي‏.‏ والجد وهو أبو الأب وهو كالأب عند عدمه إلا في رد الأم إلى ثلث ما يبقى، والأم ولها السدس مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا، وثلث الكل عند عدمهم وثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين‏.‏ والجدة ولها السدس وإن كثرت لأم كانت أو لأب، والبعدى تحجب بالقربى، والكل بالأم والأبويات بالأب، والزوج وله الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، وعند عدمه النصف‏.‏ والزوجة ولها الثمن مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه الربع‏.‏ والعصبات وهم الذين يرثون ما بقي من الفرض وأولاهم‏.‏ الابن ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم ابن الأخ لأب، ثم الأعمام، ثم أعمام الأب، ثم أعمام الجد، ثم المعتق، ثم عصبته على الترتيب‏.‏ واللاتي فرضهن النصف والثلثان يصرن عصبة بأخواتهن لا غيرهن‏.‏ وذوو الأرحام وهم الأقارب الذين ليسوا من العصبات ولا من أصحاب الفرائض وترتيبهم كترتيب العصبات‏.‏

‏{‏تِلْكَ‏}‏ إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث ‏{‏حُدُودُ الله‏}‏ سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزها ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهر خالدين فِيهَا وذلك الفوز العظيم * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا‏}‏ انتصب «خالدين» و«خالداً» على الحال، وجمع مرة وأفرد أخرى نظراً إلى معنى «من» ولفظها‏.‏ «ندخله» فيهما‏:‏ مدني وشامي ‏{‏وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ لهوانه عند الله‏.‏ ولا تعلق للمعتزلة بالآية فإنها في حق الكفار إذ الكافر هو الذي تعدى الحدود كلها، وأما المؤمن العاصي فهو مطيع بالإيمان غير متعدٍ حد التوحيد ولهذا فسر الضحاك المعصية هنا بالشرك‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ومن يعص الله ورسوله بكفره بقسمة المواريث ويتعد حدوده استحلالاً ثم خاطب الحكام فقال‏:‏

‏{‏واللفاتى‏}‏ هي جمع «التي» وموضعها رفع بالابتداء ‏{‏يَأْتِينَ الفاحشة‏}‏ أي الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح‏.‏ يقال أتى الفاحشة وجاءها ورهقها وغشيها بمعنى ‏{‏مِّن نِّسَائِكُمُ‏}‏ «من» للتبعيض والخبر ‏{‏فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ‏}‏ فاطلبوا الشهادة ‏{‏أَرْبَعةً مّنْكُمْ‏}‏ من المؤمنين ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ‏}‏ بالزنا ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت‏}‏ فاحبسوهن ‏{‏حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت‏}‏ أي ملائكة الموت كقوله

‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28‏]‏ أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن ‏{‏أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ‏}‏ قيل «أو» بمعنى «إلا أن» ‏{‏سَبِيلاً‏}‏ غير هذه‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ السبيل للبكر جلد مائة وتغريب عام وللثيب الرجم لقوله عليه السلام ‏"‏ خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ‏"‏ والّذان‏}‏ يريد الزاني والزانية‏.‏ وبتشديد النون‏:‏ مكي ‏{‏يأتيانها مِنكُمْ‏}‏ أي الفاحشة ‏{‏فَئَاذُوهُمَا‏}‏ بالتوبيخ والتعيير وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله ‏{‏فَإِن تَابَا‏}‏ عن الفاحشة ‏{‏وَأَصْلَحَا‏}‏ وغير الحال ‏{‏فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا‏}‏ فاقطعوا التوبيخ والمذمة ‏{‏إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏ يقبل توبة التائب ويرحمه‏.‏ قال الحسن‏:‏ أول ما نزل من حد الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم، فكان ترتيب النزول على خلاف ترتيب التلاوة‏.‏ والحاصل أنهما إذا كانا محصنين فحدهما الرجم لا غير، وإذا كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير، وإن كان أحدهما محصناً والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد، وقال ابن بحر‏:‏ الآية الأولى في السحّاقات، والثانية في اللواطين، والتي في سورة النور في الزاني والزانية وهو دليل ظاهر لأبي حنيفة رحمه الله في أنه يعزر في اللواطة ولا يحد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ آية الأذى في اللواطة ‏{‏إِنَّمَا التوبة‏}‏ هي من تاب الله عليه إذا قبل توبته أي إنما قبولها ‏{‏عَلَى الله‏}‏ وليس المراد به الوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكنه تأكيد للوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك ‏{‏لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء‏}‏ الذنب لسوء عقابه ‏{‏بِجَهَالَةٍ‏}‏ في موضع الحال أي يعملون السوء جاهلين سفهاء لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته‏.‏ وقيل‏:‏ جهالته اختياره اللذة الفانية على الباقية‏.‏ وقيل‏:‏ لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل كنه عقوبته‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ من زمان قريب وهو ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله‏:‏ «حتى إذا حضر أحدهم الموت»‏.‏ فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ كل توبة قبل الموت فهو قريب‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قبل أن ينظر إلى ملك الموت‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ‏"‏ و«من» للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً ‏{‏فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ عدة بأنه يفي بذلك وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ بعزمهم على التوبة ‏{‏حَكِيماً‏}‏ حكم بكون الندم توبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 23‏]‏

‏{‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏18‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ‏(‏19‏)‏ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏20‏)‏ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏21‏)‏ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏22‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّي تُبْتُ الآن‏}‏ أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت ومعاينة ملك الموت، فإن توبة هؤلاء غير مقبولة لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار، وقبول التوبة ثواب ولا وعد به إلا لمختار ‏{‏وَلاَ الذين يَمُوتُونَ‏}‏ في موضع جر بالعطف على «للذين يعملون السيئات» أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا للذين يموتون ‏{‏وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ الآية الأولى في المؤمنين، والوسطى في المنافقين، والآخرى في الكافرين‏.‏ وفي بعض المصاحف بلامين وهو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ أي هيأنا من العتيد وهو الحاضر أو الأصل أعددنا فقلبت الدال تاء‏.‏ كان الرجل يرث امرأة مورثه بأن يلقي عليها ثوبه فيتزوجها بلا مهر فنزلت ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً‏}‏ أي أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات «كرهاً» بالفتح من الكراهة وبالضم‏:‏ حمزة وعلي من الإكراه مصدر في موضع الحال من المفعول‏.‏ والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل ‏{‏وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ وهو منصوب عطفاً على «أن ترثوا» و«لا» لتأكيد النفي أي لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن، أو مجزوم بالنهي على الاستئناف فيجوز الوقف حينئذ على «كرها»‏.‏ والعضل‏:‏ الحبس والتضييق ‏{‏لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ‏}‏ من المهر واللام متعلقة ب «تعضلوا» ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ‏}‏ هي النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع‏.‏ وعن الحسن‏:‏ الفاحشة الزنا فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع ‏{‏مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ مكي وأبو بكر، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له كأنه قيل‏:‏ ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة‏.‏ وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف‏}‏ وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول ‏{‏فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ‏}‏ لقبحهن أو سوء خلقهن ‏{‏فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ‏}‏ في ذلك الشيء أو في الكره ‏{‏خَيْراً كَثِيراً‏}‏ ثواباً جزيلاً أو ولداً صالحاً‏.‏ والمعنى فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين، وأدنى إلى الخير، وأحبت ما هو بضد ذلك ولكن للنظر في أسباب الصلاح‏.‏

وإنما صح قوله ‏{‏فعسى أَن تَكْرَهُواْ‏}‏ جزاء للشرط لأن المعنى‏:‏ فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه‏.‏

وكان الرجل إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها فقيل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ‏}‏ أي تطليق امرأة وتزوج أخرى ‏{‏وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ‏}‏ وأعطيتم إحدى الزوجات، فالمراد بالزوج الجمع لأن الخطاب لجماعة الرجال ‏{‏قِنْطَاراً‏}‏ مالاً عظيماً كما في «آل عمران»‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه على المنبر‏:‏ لا تغالوا بصدقات النساء‏.‏ فقالت امرأة‏:‏ أنتبع قولك أم قول الله‏:‏ ‏{‏وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَهُنَّ قِنطَاراً‏}‏‏.‏ فقال عمر‏:‏ كل أحد أعلم من عمر، تزوجوا على ما شئتم ‏{‏فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ‏}‏ من القنطار ‏{‏شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ أي بيناً، والبهتان أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير‏.‏ وانتصب بهتاناً على الحال أي باهتين وآثمين‏.‏ ثم أنكر أخذ المهر بعد الإفضاء فقال ‏{‏وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ أي خلا بلا حائل ومنه الفضاء، والآية حجة لنا في الخلوة الصحيحة أنها تؤكد المهر حيث أنكر الأخذ وعلل بذلك ‏{‏وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ عهداً وثيقاً وهو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏ والله تعالى أخذ هذا الميثاق عى عباده لأجلهن فهو كأخذهن، أو قول النبي عليه السلام ‏"‏ استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ‏"‏ ولما نزل «لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً» قالوا‏:‏ تركنا هذا لا نرثهن كرهاً ولكن نخطبهن فننكحهن برضاهن فقيل لهم‏:‏

‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء‏}‏ وقيل‏:‏ المراد بالنكاح الوطء أي لا تطئوا ما وطيء آباؤكم، وفيه تحريم وطء موطوءة الأب بنكاح أو بملك يمين أو بزنا كما هو مذهبنا وعليه كثير من المفسرين‏.‏ ولما قالوا‏:‏ كنا نفعل ذلك فكيف حال ما كان منا‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ أي لكن ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به، والاستثناء منقطع عن سيبويه‏.‏ ثم بين صفة هذا العقد في الحال فقال ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً‏}‏ بالغة في القبح ‏{‏وَمَقْتاً‏}‏ وبغضاً عند الله وعند المؤمنين وناس منهم يمقتونه من ذوي مروآتهم ويسمونه نكاح المقت وكان المولود عليه يقال له المقتى ‏{‏وَسَاءَ سَبِيلاً‏}‏ وبئس الطريق طريقاً ذلك‏.‏

ولما ذكر في أول السورة نكاح ما طاب أي حل من النساء وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهو نساء الآباء ذكر المحرمات الباقيات وهن سبع من النسب وسبع من السبب، وبدأ بالنسب فقال‏:‏

‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم‏}‏ والمراد تحريم نكاحهن عند البعض، وقد ذكرنا المختار في شرح المنار‏.‏

والجدة من قبل الأم أو الأب ملحقة بهن ‏{‏وبناتكم‏}‏ وبنات الابن وبنات البنت ملحقات بهن، والأصل أن الجمع إذا قوبل بالجمع ينقسم الآحاد على الآحاد فتحرم على كل واحد أمه وبنته ‏{‏وأخواتكم‏}‏ لأب وأم أو لأب أو لأم ‏{‏وعماتكم‏}‏ من الأوجه الثلاثة ‏{‏وخالاتكم‏}‏ كذلك ‏{‏وَبَنَاتُ الأخ‏}‏ كذلك ‏{‏وَبَنَاتُ الأخت‏}‏ كذلك‏.‏ ثم شرع في السبب فقال ‏{‏وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة‏}‏ الله تعالى نزل الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة، أما للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير الرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم، وأصله قوله عليه السلام ‏"‏ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ‏"‏ ‏{‏وأمهات نِسَائِكُمْ‏}‏ وهن محرمات بمجرد العقد ‏{‏وَرَبَائِبُكُمُ‏}‏ سمى ولد المرأة من غير زوجها ربيباً وربيبة لأنه يربّهما كما يرب ولده في غالب الأمر، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما ‏{‏الاتى فِي حُجُورِكُمْ‏}‏ قال داود‏:‏ إذ لم تكن في حجره لا تحرم‏.‏ قلنا‏:‏ ذكر الحجر على غلبة الحال دون الشرط، وفائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم ‏{‏مّن نِّسَائِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ‏}‏ متعلق ب «ربائبكم» أي الربيبة من المرأة المدخول بها حرام على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها‏.‏ والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم «بنى عليها وضرب عليها الحجاب» أي أدخلتموهن الستر والباء للتعدية‏.‏ واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول، وقد جعل بعض العلماء «اللاتي دخلتم بهن» وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة وليس كذلك، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل، وهذا لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية ب «من»، ولا يجوز أن تقول «مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات» على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء كذا قال الزجاج وغيره، وهذا أولى مما قاله صاحب الكشاف فيه‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن ‏{‏وحلائل أَبْنَائِكُمُ‏}‏ جمع حليلة وهي الزوجة لأن كل واحد منهما يحل للآخر، أو يحل فراش الآخر من الحل، أو من الحلول ‏{‏الذين مِنْ أصلابكم‏}‏ دون من تبنيتم فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب حين فارقها زيد وقال الله تعالى‏:‏

‏{‏لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع ‏{‏وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين‏}‏ أي في النكاح وهو في موضع الرفع عطف على المحرمات أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ وعن محمد بن الحسن رحمه الله أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون هذه المحرمات إلا نكاح امرأة الأب ونكاح الأختين فلذا قال فيهما‏:‏‏.‏

«إلا ما قد سلف»

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 35‏]‏

‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏والمحصنات مِنَ النساء‏}‏ أي ذوات الأزواج لأنهن أحصنّ فروجهن بالتزوج‏.‏ قرأ الكسائي بفتح الصاد هنا وفي سائر القرآن بكسرها وغيره بفتحها في جميع القرآن ‏{‏إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم‏}‏ بالسبي وزوجها في دار الحرب‏.‏ والمعنى وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي اللاتي لهن أزواج إلا ما ملكتموهن بسبيهن وإخراجهن بدون أزواجهن لوقوع الفرقة بتباين الدارين لا بالسبي، فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستبراء ‏{‏كتاب الله عَلَيْكُمْ‏}‏ مصدر مؤكد أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً وفرضه فريضة وهو تحريم ما حرم وعطف ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ‏}‏ على الفعل المضر الذي نصب كتاب الله أي كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم ‏{‏مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ‏}‏ ما سوى الحرمات المذكورة‏.‏ «وأحل»‏:‏ كوفي غير أبي بكر عطف على «حرمت» ‏{‏أَن تَبْتَغُواْ‏}‏ مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم لأن تبتغوا، أو بدل مما «وراء ذلكم» ومفعول «تبتغوا» مقدر وهو النساء، والأجود أن لا يقدر ‏{‏بأموالكم‏}‏ يعني المهور، وفيه دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر، وأنه يجب وإن لم يسم، وأن غير المال لا يصلح مهراً، وأن القليل لا يصلح مهراً إذ الحبة لا تعد مالاً عادة ‏{‏مُّحْصِنِينَ‏}‏ في حال كونكم محصنين ‏{‏غَيْرَ مسافحين‏}‏ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دينكم ودنياكم، ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين‏.‏ والإحصان العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والمسافح الزاني من السفح وهو صب المني ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏ فما نكحتموه منهن ‏{‏فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ مهورهن لأن المهر ثواب على البضع ف «ما» في معنى النساء و«من» للتبعيض أو للبيان ويرجع الضمير إليه على اللفظ في «به» وعلى المعنى في «فآتوهن» ‏{‏فَرِيضَةً‏}‏ حال من الأجور أي مفروضة، أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة‏.‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة‏}‏ فيما تحط عنه من المهر، أو تهب له من كله، أو يزيد لها على مقداره، أو فيما تراضيا به من مقام أو فراق ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بالأشياء قبل خلقها ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله «فما استمتعتم» نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت‏.‏

‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً‏}‏ فضلاً‏.‏ يقال «لفلان عليّ طول» أي فضل وزيادة وهو مفعول «يستطع» ‏{‏أَن يَنكِحَ‏}‏ مفعول الطول فإنه مصدر فيعمل عمل فعله أو بدل من «طولاً» ‏{‏المحصنات المؤمنات‏}‏ الحرائر المسلمات ‏{‏فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات‏}‏ أي فلينكحن مملوكة من الإماء المسلمات‏.‏

وقوله‏:‏ «من فتياتكم»‏.‏ أي من فتيات المسلمين والمعنى‏:‏ ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة، ونكاح الأمة الكتابية يجوز عندنا والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقاً مع التقييد به‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ومما وسّع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً، وفيه دليل لنا في مسألة الطول ‏{‏والله أَعْلَمُ بإيمانكم‏}‏ فيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهن، ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون عمل اللسان لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف ‏{‏بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ‏}‏ أي لا تستنكفوا من نكاح الإماء فكلكم بنو آدم، وهو تحذير عن التعيير بالأنساب والتفاخر بالأحساب ‏{‏فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ‏}‏ سادتهن وهو حجة لنا في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم، وأنه ليس للعبد أو للأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى ‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏ وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وإضرار وملاّك مهورهن مواليهن، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، أو التقدير‏:‏ وآتوا مواليهن فحذف المضاف ‏{‏محصنات‏}‏ عفائف حال من المفعول في و«آتوهن» ‏{‏غَيْرَ مسافحات‏}‏ زوانٍ علانية ‏{‏وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ‏}‏ زوانٍ‏:‏ سراً والأخدان‏:‏ الأخلاء في السر ‏{‏أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ‏}‏ بالتزويج‏.‏ «أحصن»‏:‏ كوفي غير حفص ‏{‏فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة‏}‏ زنا ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات‏}‏ أي الحرائر ‏{‏مّنَ العذاب‏}‏ من الحد يعني خمسين جلدة، وقوله‏:‏ «نصف ما على المحصنات»‏.‏ يدل على أنه الجلد لا الرجم لأن الرجم لا يتنصف، وأن المحصنات هنا الحرائر اللاتي لم يزوجن ‏{‏ذلك‏}‏ أي نكاح الإماء ‏{‏لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ‏}‏ لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة‏.‏ وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الزنا لأنه سبب الهلاك‏.‏ ‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ‏}‏ في محل الرفع على الابتداء أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ لأن فيه إرقاق الولد، ولأنها خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة والعزة من صفات المؤمنين، وفي الحديث ‏"‏ الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت ‏"‏ ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ يستر المحظور ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ يكشف المحظور ‏{‏يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب‏.‏ والمعنى‏:‏ يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم ‏{‏وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بمصالح عباده ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما شرع لهم ‏{‏والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ التكرير للتأكيد والتقرير والتقابل ‏{‏وَيُرِيدُ‏}‏ الفجرة ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً‏}‏ وهو الميل عن القصد والحق، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات‏.‏

وقيل‏:‏ هم اليهود لاستحلالهم الأخوات لأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا‏:‏ فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخت والأخ فنزلت‏.‏ يقول‏:‏ يريدون أن تكونوا زناة مثلهم ‏{‏يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ‏}‏ بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص ‏{‏وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً‏}‏ لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات‏.‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل‏}‏ بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا ‏{‏إِلا أَن تَكُونَ تجارة‏}‏ إلا أن تقع تجارة‏.‏ «تجارة»‏:‏ كوفي أي إلا أن تكون التجارة تجارة ‏{‏عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ‏}‏ صفة ل «تجارة» أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد أو بالتعاطي‏.‏ والاستثناء منقطع معناه ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراضٍ، أو ولكن كون تجارة عن تراضٍ غير منهي عنه‏.‏ وخص التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها، والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا، وعلى نفي خيار المجلس لأن فيها إباحة الاكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد والتقييد به زيادة عن النص ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ من كان من جنسكم من المؤمنين لأن المؤمنين كنفس واحدة، أو ولا يقتل الرجل نفسه كما يفعله الجهلة، أو معنى القتل أكل الأموال بالباطل فظالم غيره كمهلك نفسه، أو لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها أو تركبوا ما يوجب القتل ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً‏}‏ ولرحمته بكم نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم وبقاء أبدانكم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة‏.‏

‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ أي القتل أي ومن يقدم على قتل الأنفس ‏{‏عدوانا وَظُلْماً‏}‏ لا خطأ ولا قصاصاً وهما مصدران في موضع الحال أو مفعول لهما ‏{‏فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً‏}‏ ندخله ناراً مخصوصة شديدة العذاب ‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ أي إصلاؤه النار ‏{‏عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ سهلاً وهذا الوعيد في حق المستحيل للتخليد، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته‏.‏

‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم‏}‏ عن ابن مسعود رضي الله عنهما‏:‏ الكبائر كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله‏:‏ «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه»‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ الكبائر ثلاث‏:‏ الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها أنواع الكفر بدليل قراءة عبد الله «كبير ما تنهون عنه» وهو الكفر ‏{‏وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً‏}‏ «مدخلا»‏:‏ مدني وكلاهما بمعنى المكان والمصدر كريما «حسناً»‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت‏.‏ «يريد الله ليبين لكم»‏.‏ «والله يريد أن يتوب عليكم»‏.‏ «يريد الله أن يخفف عنكم»‏.‏ «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم»‏.‏ «إن الله لا يغفر أن يشرك به»‏.‏ «إن الله لا يظلم مثقال ذرة»‏.‏ «ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه»‏.‏ «ما يفعل الله بعذابكم»‏.‏ وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر، وعلى أن الكبائر غير مغفورة باطل، لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء إن شاء عذب عليهما وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏‏.‏ فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات ينطبق عليهما‏.‏

ولما كان أخذ مال الغير بالباطل وقتل النفس بغير حق بتمني مال الغير وجاهه نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال بقوله ‏{‏وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه، والغبطة أن يتمنى مثل ما لغيره وهو مرخص فيه، والأول منهي عنه‏.‏ ولما قال الرجال‏:‏ نرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث، قالت النساء‏:‏ يكون وزرنا على نصف وزر الرجال كالميراث نزل ‏{‏لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن‏}‏ أي ليس ذلك على حسب الميراث ‏{‏واسألوا الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ فإن خزائنه لا تنفد ولا تتمنوا ما للناس من الفضل ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً‏}‏ فالتفضيل منه عن علم بمواضع الاستحقاق‏.‏ قال ابن عيينة‏:‏ لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي وفي الحديث ‏"‏ من لم يسأل الله من فضله غضب عليه ‏"‏

وفيه ‏"‏ إن الله تعالى ليمسك الخير الكثير عن عبده ويقول‏:‏ لا أعطي عبدي حتى يسألني ‏"‏ «وسلوا»‏:‏ مكي وعلي ‏{‏وَلِكُلٍّ‏}‏ المضاف إليه محذوف تقديره ولكل أحد أو ولكل مال ‏{‏جَعَلْنَا مَوَالِيَ‏}‏ ورّاثاً يلونه ويحرزونه ‏{‏مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون‏}‏ هو صفة مال محذوف أي لكل مال مما تركه الوالدان، أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه الموالي تقديره‏:‏ يرثون مما ترك ‏{‏والذين عَقَدَتْ أيمانكم‏}‏ عاقدتهم أيديكم وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره وهو ‏{‏فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ مع الفاء‏.‏ «عقدت»‏:‏ كوفي أي عقدت عهودهم أيمانكم والمراد به عقد الموالاة وهي مشروعة‏.‏ والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضي الله عنهم وهو قولنا‏.‏ وتفسيره إذا أسلم رجل أو امرأة لا وارث له وليس بعربي ولا معتق فيقول لآخر‏:‏ واليتك على أن تعقلني إذا جنيت وترث مني إذا مت‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ قبلت‏.‏ انعقد ذلك ويرث الأعلى من الأسفل ‏{‏إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً‏}‏ أي هو عالم الغيب والشهادة وهو أبلغ وعد ووعيد‏.‏

‏{‏الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء‏}‏ يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا وسموا قواماً لذلك ‏{‏بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ الضمير في «بعضهم» للرجال والنساء يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن لسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء بالعقل والعزم والحزم والرأي والقوة والغزو وكمال الصوم والصلاة والنبوة والخلافة والإمامة والأذان والخطبة والجماعة والجمعة وتكبير التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله والشهادة في الحدود والقصاص وتضعيف الميراث والتعصيب فيه وملك النكاح والطلاق وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم‏.‏ ‏{‏وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم‏}‏ وبأن نفقتهن عليهم وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم‏.‏ ثم قسمهن على نوعين‏.‏ النوع الأول ‏{‏فالصالحات قانتات‏}‏ مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج ‏{‏حفظات لّلْغَيْبِ‏}‏ لمواجب الغيب وهو خلاف الشهادة أي إذ كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والبيوت والأموال‏.‏ وقيل‏:‏ للغيب لأسرارهم ‏{‏بِمَا حَفِظَ الله‏}‏ بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج بقوله‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏‏.‏ أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب، أو بحفظ الله إياهن حيث صيرهن كذلك‏.‏ والثاني ‏{‏والاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ‏}‏ عصيانهن وترفعهن عن طاعة الأزواج‏.‏ والنشز‏:‏ المكان المرتفع والنبوة‏.‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هو أن تستخف بحقوق زوجها ولا تطيع أمره ‏{‏فَعِظُوهُنَّ‏}‏ خوفوهن عقوبة الله تعالى‏.‏ والضرب والعظة كلام يلين القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة ‏{‏واهجروهن فِي المضاجع‏}‏ في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف وهو كناية عن الجماع، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع لأنه لم يقل عن المضاجع ‏{‏واضربوهن‏}‏ ضرباً غير مبرح‏.‏

أمر بوعظهن أولاً ثم بهجرانهن في المضاجع، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران ‏{‏فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ‏}‏ بترك النشوز ‏{‏فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً‏}‏ فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى و«سبيلاً» مفعول «تبغوا» وهو من بغيت الأمر أي طلبته ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً‏}‏ أي إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن، أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع‏.‏

ثم خاطب الولاة بقوله ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا‏}‏ أصله «شقاقاً بينهما» فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع كقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ اليل والنهار‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وأصله بل مكر في الليل والنهار‏.‏ والشقاق‏:‏ العداوة والخلاف، لأن كلاًّ منهما يفعل ما يشق على صاحبه، أو يميل إلى شق أي ناحية غير شق صاحبه والضمير للزوجين ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء ‏{‏فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ‏}‏ رجلاً يصلح للحكومة والإصلاح بينها ‏{‏وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهم فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة‏.‏ والضمير في ‏{‏إِن يُرِيدَا إصلاحا‏}‏ للحكمين، وفي ‏{‏يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا‏}‏ للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة بورك في وساطتهما، وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق، وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق‏.‏ أو الضميران للحكمين أي إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين، يوفق الله بينهما فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد‏.‏ أو الضميران للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلب الخير وأن يزول عنهما الشقاق، يلق الله بينهما الألفة وأبدلهما بالشقاق الوفاق وبالبغضاء المودة ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بإرادة الحكمين ‏{‏خَبِيراً‏}‏ بالظالم من الزوجين وليس لهما ولاية التفريق عندنا خلافاً لمالك رحمه الله‏.‏